لقد احتلت الفرجة الشعبية التي عايشها الكغاط في "راس القليعة" أهم عنصر وجهه نحو ممارسة المسرح، والوفاء له دون غيره، إلى درجة أن أغلب أعماله بقيت تستعيد السمايري بكل أبعاده ومواصفاته· وفي مذكراته المخطوطة، يتحدث محمد الكغاط عن "راس القليعة" واضعا عنوان ذلك الجزء من مذكراته: "كيف لا يوجد مسرح بفاس وبها "راس القليعة"، حيث يستعيد أيام طفولته في حي باب فتوح بفاس، وكيف كان يجذبه الواجب المدرسي من جهة وفرجة "راس القليعة" من جهة أخرى· نقرأ في مذكراته: "مع درس العشية يختلف الأمر··· أغادر المنزل قبل موعد الدخول إلى القسم لأقضي بعض الوقت في الفرجة··· لأستمتع بعض الوقت بإحدى "الحلقات" وصاحبها··· كانت ساحة "راس القليعة" تبدو لعيني طفل في المدرسة الابتدائية عالما شاسعا، وعندما يندمج في أحدى حلقاتها يدخل عالما ينسيه العالم الأكبر··· مدينة فاس "(5-3) لقد بقي محمد الكغاط طول حياته مسكونا بعالم "راس القليعة"، بفنانيها وبهلوانييها، مسكونا بمتخيلها يلهمه في مسرحه المتعدد، بل بقي محمد الكغاط "سمايري" من "راس القليعة" انتقل إلى المسرح بعد أن اندثرت الساحة ولم يقم مسرح بمدينة فاس· وفاء رهيب ذاك الذي استبد بمحمد الكغاط لساحة "راس القليعة" ولحي باب فتوح على امتداد إبداعه وحياته الحافلة، إلى درجة أنه في بعض اللحظات الحميمة، وحين يسـأل هل هو من فاس، كان يرد باسما: "أنا ولد باب فتوح" تعبيرا عن انتمائه إلى رأسمال رمزي حافظ عليه طول حياته·
2- المرتجلة، أو التفكير في المسرح
مع مطلع الثمانينات من القرن العشرين، سينخرط محمد الكغاط في مسرح الهواة بكل وعي، وباختياراته الجمالية والفكرية التي عبرت عنها بامتياز مسرحية "بشار الخير"· ويمكن القول إن انخراطه في مسرح الهواة ومشاركاته العديدة في مهرجاناته وملتقياته كانت تخلق لديه إحساسا بالعوامل التي ستقود تجربة الهواة إلى الباب المسدود· لم يكن محمد الكغاط يمارس مسرحا سياسيا بما للكلمة من معنى، ولكنه كان دائما يحافظ على اختياراته الإنسانية العميقة، ويبحث عن خلق وعي بإنسانية الإنسان، الشيء الذي كان لازما في أغلب مسرحياته، والذي كان ينسحب على حياته في الوقت ذاته·
وبينما كان يتضح للكغاط أكثر فأكثر اختياره الدراماتورجي باعتباره اختيارا لصناعة الفرجة بالإمكانيات المتوفرة، وانطلاقا من كتابة النص إلى توزيع العرض· دون بهرجة جمالية كما كنا نجد عند الطيب الصديقي، وبدون إقصاء للحداثة ولتجارب المسرح الحديث كما كنا نجد عند أحمد الطيب العلج، وبدون إغراق في الخطاب الإيديولوجي كما كانت تتميز به أغلب مسرحيات الهواة· لما كان هذا الاختيار يتوضح، كان محمد الكغاط يدفع ثمن ذلك الاختيار بالإقصاء الذي كان يعرفه مسرحه في ملتقيات مسرح الهواة ولجن التحكيم فيها·
ربما كان في ذلك الأمر عنصرا إيجابيا يؤكد قولة عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم·
ولعل ذلك ما دفع محمد الكغاط إلى أن ينخرط في تجربة من أهم تجارب المسرح المغربي الحديث، ومن التجارب الأساسية التي منحت طابعا تجريبيا حديثا للمسرح المغربي برمته، وهي تجربة المرتجلة التي عمد من خلالها الكغاط إلى التفكير في المسرح، وفي ملابسات صناعته وتوزيعه في المغرب·
شكلت المرتجلة محطة أساسية في تجربة محمد الكغاط الذي بدا له أن مسرحية واحدة غير كافية للتفكير في كل تكعيبات المسرح المغربي وملابساته· وهكذا، افتتح الكغاط المرتجلة بمسرحية "المرتجلة الجديدة" والتي جرب من خلالها استثمار إمكانيات الممثلين في التأليف، فجاءت بذلك مكونة من مقاطع من تأليفه، وأخرى من تأليف الممثلين· وقد كان تلك صيغة لتجريب الارتجال المفكر فيه، وهو اختيار حاول من خلاله عدم الوقوف عند حدود الارتجال كفعل مجاني ولحظي تفرزه خصوصيات الفرجة المسرحية في علاقتها المباشرة مع الجمهور، ولكن الانتقال نحو ابتكار صيغ مرتجلة تكون جسرا للوصول إلى فرجة متقنة الصنع·
اعتمدت مسرحية "المرتجلة الجديدة" على التفكير في المسرح من خلال فعاليات ثلاث: المؤلف، المخرج، والناقد، وأضافت عنصرا رابعا تمثل في الممثلين الذين شاركوا في عملية التأليف· يشرح محمد الكغاط ملابسات اختياره للمرتجلة قائلا: "ولأن مسرحنا يعاني من كل أنواع المصاعب والعراقل، فقد لجأت إلى كتابة المرتجلة من أجل طرحها أمام الجمهور، وذلك بعد أن تبين لي أن الحديث عن المشاكل ليس كمعايشتها"· (7-2)· ولكن طبيعة العراقيل التي تواجه المسرح، والتي اختار محمد الكغاط طرحها أمام جمهور "المرتجلة الجديدة" لم يكن من نوع العراقيل المادية ومشكل الإنتاج والترويج والمهنة برمتها، ولكنه اختار طرح مشكلة "الارتجال" بمفهومه البسيط والعام والذي يعاني منه المسرح المغربي· ولهذا اختار مشكلة التسلط، أي تسلط غير المسرحيين على المسرح من خلال الشخصيات الثلاثة المشار إليها أعلاه: المؤلف المتسلط، المخرج المتسلط، والناقد المتسلط· وقد اختار "للمرتجلة الجديدة" كما يقول قالبا من "السخرية والضحك وتضخيم المواقف سعيا مني لخلق ما يعرف بالكوميديا السوداء، وقد بالغت في سوداوية هذه الكوميديا لأصل لا إلى أن من الهم ما يضحك، ولكن إلى أن الهم إذا زاد عن حده صار مضحكا (7-2) وإذا كانت "المرتجلة الجديدة" تناولت التسلط في المسرح من زاوية ساخرة، فقد كان الكغاط قد نشر تباعا عددا من "المقالات تصدت للتسلط والادعاء على المسرح" (16-2)· وربما يجدر بنا أن نستعيد بعض المقاطع من المسرحية لنرى قساوة الكوميديا السوداء، ونتلمس عمق إحساس محمد الكغاط بوضعية المسرح المغربي آنذاك:
المتسلط المؤلف: ثلاثة دلباكيات ونص··
والقرعة السابعة وصلت للنص
ومازال ما كتبنا حرف في النص (···)
المتسلط المخرج: شوف شي نص قديم·· وعجنو·· وعركو··· ومخضو··· وقلبو···
وشقلبو··· وشوهو··· راه الناس ما كيقروا والو·· وخا حافظين العناوين (···)
المتسلط المؤلف: واخا·· قلي الاخراج ديالك على ما نصيب النص
المتسلط المخرج: لا يا أخي··· اسمح لي··· مايمكن نقول الاخراج اديالي حتى تعطيني النص ديالك ···! (···)
المتسلط الناقد: أعتقد·· بل أظن·· لأن الظن غير الاعتقاد، والاعتقاد غير الظن وإن كان كلاهما ينطوي على حمولة تقرب أولاهما من ثانيتهما بمقدار ما يقترب نص النص من نصف النصف ـ24/19-2)·
تؤشر هذه المقاطع ـ والمسرحية مليئة بأخرى أكثر منها سخرية ـ على طبيعة انشغال محمد الكغاط بوضعية المسرح المغربي على الأقل خلال نهايات الثمانينات من القرن العشرين، والملابسات التي أثارت عنده هذا الانشغال، وهي بطبيعة الحال أزمة المسرح المغربي على الأصعدة الثلاثة، التأليف والإخراج والنقد·
لقد جاءت مسرحية "المرتجلة الجديدة" في لحظة كانت من أهم اللحظات التي عرف فيها مسرح الهواة تراجعا ملحوظا، وأصبح يفقد خصوصياته التي جعلت منه لمدة تاريخية طويلة مدرسة مسرحية وثقافية تخرج فيها عدد من النخبة الثقافية والمسرحية، وحتى السياسية، وذلك بعد أن كان الفعل المسرحية وثيق الارتباط بالحركة الوطنية خلال عهد الاستعمار الغاشم بالمغرب· والحال أننا لاحظنا نوعا من التسيب قد أصاب مسرح الهواة خلال الثمانينات تجلى أساسا في ضمور الممارسة المسرحية وافتقادها للعمق الثقافي الذي كان يميزها بسبب المتسلطين الذي أصبحوا بقدرة قادر رجال مسرح· كما تجلى ذلك التسيب في الفوضى التي أصبحت تعرفها جمعيات المسرح، والتي تم امتصاصها عبر مخطط جهنمي قاد إلى تراجع دورها الريادي بفعل انخراط أصحابها في مسرحيات رسمية مدفوعة الأجر· وربما ذلك التراجع الذي عرفه مسرح الهواة على امتداد الثمانينات هو الذي قاد إلى استقبال المسرحيين من طرف الملك في مطلع التسعينات باعتباره إشارة على وعي بوضعية مسرحية فقيرة ومتسيبة· وفي الآن ذاته، ومع مطلع التسعينات، نهض الجدل حول قانون مهنة المسرح، وضرورة ترسيمها بمراسيم تضمن الكرامة للممارسين الحقيقيين، كما ظهرت تنظيمات نقابية أولاها "النقابة الوطنية لمحترفي المسرح" إضافة إلى نقابات أخرى تروم تنظيم قطاع فنون الفرجة بأكملها· ونذكر أنه خلال الحقبة نفسها، لم يهيمن موضوع على نقاشات الفاعلين المسرحيين كما هيمن موضوع هيكلة المسرح، بتداعياته القانونية والسياسية والأخلاقية·
لقد كان هذا المشهد المسرحي يثبت مدى الأزمة التي وصل إليها الفعل المسرحي بالمغرب رغم وجود معهد للمسرح حديث التأسيس آنذاك· ولم تكن مسرحية "المرتجلة الجديدة" إلا المقدمة الإبداعية التي سجلت برهافة بالغة، وبسخرية لاذعة عمق أزمة مسرح كان بهيا كما كان مؤسسة للفعل الثقافي الحقيقي· كانت "المرتجلة الجديدة" صوت مبدع مسرحي أحس قبل الجميع بأنه من الضروري أن نفكر في مسرح ينفلت من بين أيدينا ونحن نتوهم أننا نمسك به كما يتوهم أحد أنه يمسك بالماء وهو ينسكب بين فروج الأصابع حسب الصورة البليغة لمجنون ليلى لما تيقن أن مضيعها لا محالة·
3 ـ مرتجلة فاس، بحثا عن التنوير
بمقدورنا أن نلاحظ أن "المرتجلة الجديدة" كانت ترصد واقعا مسرحيا مغربيا حقيقيا ومعيشا، وتقارب وضعية مسرح الهواة بدقة· ولكن محمد الكغاط لم يقل كل ما كان يريد قوله حول المسرح، وإن كان قد تحدث عن التسلط في المسرح· فهذا الأخير يمتلك شجونا أخرى، وله طيات ثقافية تجعل من المستحيل التفكير فيه دون التفكير في الوضعية الثقافية برمتها، وفي التقاطعات الحادثة داخلها بين أنظمة من المتون والنصوص، وبين عقليات وذهنيات ومرجعيات موروثة وحادثة· إن التفكير في المسرح ضمن خريطة الثقافة العربية يملك أكثر من وجه وأكثر من جانب·
استجابة لوجهة النظر هذه، جاءت المرتجلة الثانية لمحمد الكغاط، "مرتجلة فاس" التي صرف من خلالها تفكيره في الوضعية الثقافية للمسرح، وللإكراهات التي تلف صاحبه من شتى الجهات· لقد برز أن تفكير الكغاط في المسرح في مرتجلته الثانية لا يسير في نفس خط الأولى، بقدر ما يحاول أن ينخرط في قراءة أدبية للمسرح، ومن ثمة ثقافية له، بعد أن صرف وجهة نظر تقنية ومهنية في المرتجلة الأولى· ورغم ذلك، لم يتخل الكغاط عن "السمايري" فيه كما اقترحنا ذلك سابقا، وحاول من خلال تلك الشخصية التي سكنته أن يتساءل عن وضعية المسرح في ثقافة أنتجت الشعر كما أنتجت الفرجة الشعبية التي عرفتها ساحات المدن العربية·
من هنا، تنطلق "مرتجلة فاس" من الساحة العربية التي عرفت أشكال الفرجة الشعبية المتعددة، والتي يعتبر السمايري من بينها، لتطرح تيمة أساسية تتعلق بتحريم المسرح ومحاكمة أصحابه·
لقد انشغل الكغاط في مرتجلته الثانية بحالة ثقافية قائمة تتجلى في مصادرة الفعل المسرحي بكل أنواعه، ومصادرة حق أصحابه في التعبير· ولهذا، تنهض هذه المسرحية على توتر درامي بين الممثل وبين القضاة، خاصة القاضي "يزرف"، منقسمة إلى لوحات متقطعة تتواتر فيها مشاهد اللقاء بين الممثل وبين القضاة، ويوجهها تدخل المنادي في البداية·
المنادي: أهيا سيادنا ما تسمعوا إلا خير:
قالكم الكونترول سيفيل:
التأليف ممنوع
الإخراج ممنوع
التمثيل ممنوع
الضحك ممنوع (56-2)·
يظهر أن الكغاط مسكون في مرتجلاته بمنع المسرح بكل أشكاله، سواء بالتسلط عليه أو بمصادرته وملاحقة مرتكبيه· ويعتبر هذا الانشغال هو الحبل الرابط بين كل مشاهد "مرتجلة فاس" التي تطرح قضية المنع في بعده الثقافي، فالممثل ليس إلا شاعرا محترفا، ومحاكمته هي محاكمة للشعر أساسا:
القاضي 1: التهمة: نبش الماضي، والماضي مقدس لا ينبش
استلهام التراث والتراث ثروة الأجداد
استعمال التورية··· وكان عليه أن يستعمل الغموض···
القاضي 2: مجرم خطير وخطير جدا··
جعل ميلاده قبل وجود أبويه، وهذا عقوق في حق القدماء
القاضي 3: ملابس فقيرة لا تبهر المشاهدين···
الإخلال بقواعد الإلقاء كما قننها الأوائل" (68-2)·
لا يتعلق الأمر هنا بتحريم المسرح من أصله كما ستتطرق إليه المسرحية فيما بعد، ولكن بمصادرة التجريب في المسرح، ومحاولة الوقوف ضد كل محاولة تجديد وتجريب· ولهذا، يحاكم الممثل لأنه استلهم التراث، ونبش الماضي، وخلط الأزمنة، وقدم ملابس غير مبهرة… وهي كلها صفات تميز بها مسرح محمد الكغاط·
ولكن مصادرة الفعل التجريبي الحر في المسرح هو جزء من مصادرة المسرح وتحريمه· وفي هذا الصدد، لا يمكن أن تفكر مرتجلة في المسرح المغربي أو العربي دون أن تتناول محاولة الفقيه أحمد بن الصديق تحريم التمثيل بعد أن كان الشيخ سعيد الغبرا قد حرم مسرح أبي خليل القباني في نهايات القرن التاسع عشر· وهكذا، تتناول "مرتجلة فاس" تحريم المسرح صراحة من خلال مشهد لقاء القاضي يزرف مع الممثل :
القاضي يزرف… كفاش وقع لك ؟
الممثل : كنت نعمسيدي كممثل فواحد المسرحية··
يزرف
وقد صدم) آه··آه
الممثل : نزيد نعماس؟!
يزرف : قضية هذي ! زيد
الممثل : كنت كنقوم بدور الحمار··
يزرف : آه·· آه واش ما وصلكش باللي التمثيل حرام؟! ما قريتيش كتاب "إقامة الدليل على حرمة التمثيل"؟!
الممثل : قريتو نعماس··
يزرف :… واش ما كتعرفش باللي تقليد الكفار حرام
الممثل : عندك الحق نعماس·· لكن الحمار- حشاك- اللي قلدت ماكانش كافر
يزرف : آه·· آه وباش عرفتيه؟!
الممثل : مولاه نعماس، ما كانش كافر·· وهما بزوج مزالين بالحياة··
يزرف : والحمار·· يمكن يشهد؟
الممثل : يمكن له نعماس"( 84/83-29
لا تطمح "مرتجلة فاس"، كما يظهر من هذه المقاطع، إلا الاتصال بحالة من الفكر التنويري الذي يعتبر المسرح شكلا من أرقى أشكال التعبير الفني، ويحاول أن يقف في وجه حملات التحريم المتعددة والتي كان المسرح العربي برمته ضحية لها منذ أن فكر مارون النقاش في تقديم مسرحيته الأولى·
لعله ينبغي أن ننتبه إلى أن "مرتجلة فاس" لا تطرح تحريم المسرح من زاوية الفقه فقط، وهو الشيء الذي استهلك إلى حد ما، ولكنها تفكر فيما يمثله تحريم المسرح من داخل المسرح، من خلال مصادرة المسرح التجريبي الحر، ومصادرة الفكر المتحرر والتنويري داخل المسرح نفسه، وربما كانت هذه هي خصوصية المرتجلة في حد ذاتها، من حيث أنها تتناول وضعية يعرفها المسرح المغربي الآن، وهي خضوع بعض ممارسيه ونقاده لذهنية تقليدية متحجرة، يضحون بسببها عائقا نحو تطور هذا المسرح بدل أن يكونوا دافعا نحو تقدمه، ولعل تتبع مآل بعض التجارب المسرحية الراهنة، وتتبع بعض الكتابات النقدية هزيلة المرجعية، تكشف عن ذهنية أسطورية تعشش في عقول بعض رجال المسرح وبعض نقاده·
من جهته، كان محمد الكغاط، الفنان المتنور، لا يفرق بين تحريم المسرح ومصادرة التجريب المسرحي، وبين التسلط على المسرح، وإذا كان هذا العنصر الأخير قد هيمن على "المرتجلة الجديدة"، فإن "مرتجلة فاس" تمثلت المسألة في رحابتها الثقافية، واقترحت تفكيرا تكعيبيا يحاول محاصرة كل أشكال التحريم التي يخضع له فنان المسرح، والفنان محمد الكغاط أساسا خلال تجربته الطويلة في ممارسة المسرح، وتنتهي "مرتجلة فاس" على صوت القاضي يزرف يحاكم المؤلف، ويأمره بإعادة كتابة المرتجلة·
في تجربة المرتجلة، تعتبر مرتجلة "شميشة للا" هي آخر مرتجلة كتبها محمد الكغاط، وبدا فيها جليا امتلاكه للصناعة المسرحية لأنه هي الصناعة التي أنقذت المضمون الارتجالي الضعيف للمسرحية، فقد انصبت المسرحية على لجن التحكيم، وكأن محمد الكغاط كان يريد تصفية "حساب مسرحي" دام زمنا طويلا، وامتد خلال ملتقيات ومهرجانات عديدة كان الكغاط فيها دائما ضحية لجن التحكيم إياها، ولكنه، رغم ذلك، لم يستطع تجاوز الألق الذي وسم به مرتجلتيه السابقتين، ولا وصل إلى العمق الذي تميزت به خصوصا "مرتجلة فاس"· وهذه نتيجة طبيعية لأن نوع المرتجلة لا يتاح دوما، ولا يطرق مرات عديدة مادام يكثف فكر رجل مسرح حول المسرح ذاته·
وعلى الرغم من ذلك، تميزت "شميشة للا" بقالب خفيف وظريف باستثمار خرافة "شميشة للا" الفتاة التي تصاب بمرض تفقد بسببه الرغبة في الحياة، فستقدم أبوها كل الأطباء والسحرة والأخصائيين، ويعد من يستطيع أن يعيد الابتسامة لفتاته بتزويجه إياها· وهكذا، يتعاقب كل الممثلين والفنانين على الفتاة، ويقدمون لها كل الهزليات، ويلعبون أمامها كل الأدوار وهي لا تبدي أي تجاوب، ولما يتقدم إليها عضو لجنة التحكيم الذي لا يحسن النطق ولا الحركة، تبتسم وتكون من نصيبه·
كانت غاية الكغاط في ضربته الارتجالية الأخيرة أن يكشف النقاب عن جدل قائم بين رداءة المسرح وبين تسلط من يعهد إليهم بانتقاء العروض والفصل بينها، حيث تتم إعادة إنتاج الرداءة بسبب سوء الاختيار وسوء التحكيم· ومهما يكن من أمر يمكن أن نلاحظ أن البعد الارتجالي قد تمثل أكثر في المرتجلتين الأوليين، فيما بقيت المرتجلة الثالثة، مرتجلة "شميشة للا"، امتدادا جميلا وظريفا لمرتجلتين أرهصتا بتحولات المسرح المغربي برمته، وسجلتا منعطفا مهما فكر من خلال المسرح في ذاته·
لقد أعلنت تجربة محمد الكغاط في هذا المنعطف عن انطلاق وعي حاد عند المسرحيين المغاربة بالضرورة في التفكير في شروط المهنة، والتفكير في المسرح باعتباره شكلا من أشكال التداول الثقافي المشاغبة في الخريطة السوسيو ثقافية المغربية، وهكذا، لاحظنا إقبالا على نوع المرتجلة حتى في تجارب المسرح الاحترافي التي ربما لا تسمح لها إكراهات سوق الفرجة بالتوقف عند التفكير في المسرح،وهكذا، ومع مطلع التسعينات ستخصص فرقة "مسرح اليوم" إحدى انتاجاتها للمرتجلة من خلال مسرحية "سويرتي مولانا" ذات العنوان الملتهب الذي يؤشر على وضعية قلقة للمسرح في المغرب، ثم ستعود الفرقة ذاتها بضع سنوات بعد مرتجلتها الأولى إلى مرتجلة ثانية سيشارك فيها كما لو بصدفة غريبة المرحوم محمد الكغاط بعنوان"امتا نبداو امتا؟"· وقد كانت إشارة ثقافية عميقة الصدى أن يلتقي رواد للمسرح من عيار ثريا جبران ومحمد الكغاط ليتساءلوا "امتا نبداو امتا؟" تعبيرا عن شقاء ثقافي رهيب يعرفه المغرب من خلال وضعية مسرحية فقيرة ومجحفة يتناسل فيها المسرحيون دون تناسل التجارب والأجيال والحساسيات· وبعد سنوات من ذلك، وفي مطلع سنة 2001، سينهي عبد الواحد عوزري ورقة نقدية حول الموسم المسرحي بالمغرب بسؤال أكثر تعبيرا : من يخاف من المسرح بالمغرب؟ ربما يجد عوزري جوابا على هذا السؤال في "مرتجلة فاس" حين حوكم محمد الكغاط على يد القاضي يزرف لأنه يمارس مسرحا متنورا حرا وتجريبيا لا يخضع فيه لأي سلطة·
لم يكن محمد الكغاط يرتهن إلا لفكرة، وفضل أن يعيش بهدوء محافظا على الفنان فيه، يشرب شايه الفخم مساء كل يوم في مقهى الكوميديا، ويمارس مسرحا بقي فيه دائما وفيا لنفسه، ووفيا أكثر لذلك الطفل الذي كان يقطع ساحة "رأس القليعة" ويضحي بدروسه لكي يتعلم فن الفرجة، وفن حب الناس دون حقد ولا كراهية· وإلى آخر مسرحية أخرجها، مسرحية "حكاية فلان الفلاني فلتان" بقي سي محمد الكغاط شامخا في وفائه للطفل" ولد باب فتوح" كما كان يحلو له أن يقول، ووفيا للسمايري الذي سكنه منذ أن وطئت رجله حلقات "رأس القليعة"، وذلك وفاء قلما نجد الآن نظيرا له، فهو وفاء لإنسانية الإنسان،ووفاء لشريعة حب الإنسان… ذلك الوفاء هو الذي جعل سي محمد الكغاط يجيب عن سؤال حول مفهوم المسرح عنده في إحدى تصريحاته الأخيرة : "أمارس مسرحا أبقى فيه وفيا لنفسي"(4)·